المشهد يزداد سوداوية. هي قناعة البعض من أصدقاء سوريا ممن يواظبون على زيارتها، ولو لم يلتقوا أياً من قادتها. يعربون عن قلق شديد على الأسد وعرينه، الذي اعتادوا أن يجولوا في مدنه وقراه، يسألوا ويستفسروا عما جرى ويجري. لا يخفون تشاؤمهم ولا دهشتهم. يقولون إن الأمر يبدو كأن الرئيس بشار الأسد استفاق ذات يوم، فلم يجد حوله لا حزب بعث ولا أجهزة أمنية ولا طاقم سياسياً دبلوماسياً إعلامياً يمكن الاعتماد عليه. فقط جيش متماسك، ولاؤه مطلق لرئيسه. حتى أكثر هؤلاء الأصدقاء تفاؤلاً يقولون إن المأزق الأساس لنظام الأسد مالي. يوضحون أن «الأسد بحاجة إلى نحو 20 مليار دولار للخروج من هذه المعضلة. من دونها على النظام السلام».
هذا حساب الحقل، كما يظهر. أما حساب البيدر، على ما يفيد تقدير للوضع أبلغ إلى أكثر من عاصمة وجهة نافذة معنية بالملف السوري، فيبدو مختلفاً، وخلاصته أن «الأسد نفذ من هذا المأزق وتجاوز المرحلة التي كان يمكن أن يقع فيها فريسة هذا الهجوم الشرس»، وأن «سوريا لن تعود إلى الوراء. سوريا جديدة بالكامل ستخرج للعالم خلال ثلاثة إلى ستة أشهر، يكون قد جرى في خلالها الانتقال من عهد بشار حافظ الأسد إلى عهد بشار الأسد».
مسؤول رفيع المستوى في عاصمة إقليمية لصيقة بهذا الملف يؤكد أن «سوريا الجديدة ستبقى تحت قيادة بشار الأسد، لكن من دون الطاقم القديم كله، سواء العسكري أو الأمني أو الدبلوماسي أو الإعلامي». يضيف إن «النظام سيكون جمهورياً برلمانياً، متعدد الأحزاب، حيوياً، مختلفاً تماماً عن نظام أبيه، الذي لا يجمعه به سوى الاسم وبعض الإرث الخاص بالمقاومة والدفاع عن المقاومة»، مشيراً إلى أن «حزب البعث سينتهي. سيندثر. الرئيس الأسد سينشئ حزباً خاصاً به، ينسجم مع تطلعاته، ويكون قادراً على جذب الشباب واستيعاب آرائهم وطموحاتهم».
المصدر نفسه ينفي معلومات عن صفقة إقليمية تقايض التمديد للاحتلال الأميركي في العراق ببقاء الأسد على رأس السلطة في سوريا. يقول إن «إيران لم توافق عليها. لا أحد مستعد لأن يعطي هذه الهدية للأميركيين». ويضيف «بل على العكس، مقاتلة الأميركيين في العراق تقوّي نظام الأسد، ولذلك جرى تدعيم جبهة العراق لمصلحة سوريا وربطها بها أكثر فأكثر، على جميع المستويات، السياسية والدبلوماسية والإعلامية. جرى التوافق بين الأطراف السياسية النافذة في بغداد على الحشد من أجل سوريا والرئيس الأسد». ويتابع أن «تركيا ستأتي إلى سوريا من جديد، ومعها بعض أوروبا، تتقدمه فرنسا التي ستنخّ وتعمل على فتح صفحة جديدة مع دمشق». أما بالنسبة إلى التوقيت، فبين ثلاثة وستة أشهر، يؤكد المصدر أن «الجهات الدولية المتورطة، وبعضها يترقب عمليات انتخابية في هذه الفترة، بذلت كل ما عندها وبدأت تنكفئ على نفسها، فيما يكون الأسد قد استكمل الرحلة الداخلية نحو التغيير والاستجابة للمطالب المشروعة للشعب السوري».
مصادر قريبة من أروقة صناعة القرار في طهران تكشف أن «الأتراك يخوضون حواراً جدياً مع الإيرانيين للعودة المتدرجة إلى علاقات طبيعية مع بشار الأسد الجديد». تقول إن «هناك اتفاقاً على خطوات لتطبيع العلاقات. كانوا (الأتراك) يريدون إمرار الانتخابات والضغط الأميركي الإسرائيلي عليهم»، موضحة أن «علاقة تركيا بسوريا مبنية على البراغماتية. بالطريقة البراغماتية نفسها التي ابتعد بها الأتراك عن دمشق، يعودون إليها بعد المواقف التي أبلغتها كل من طهران وبغداد لأنقرة». وتضيف «هناك زيارة قريبة لأحمد داوود أوغلو إلى دمشق. لا يمكنه تحقيق هدف سياسته الخارجية في تصفير المشاكل وفتح معركة مع سوريا والعراق وإيران في الوقت نفسه».
لماذا بشار الأسد؟
هي عملياً عملية قطع مع نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، بكل إرثه، الإيجابي منه والسلبي. صحيح أن الأسد الابن جاء إلى السلطة ثمرة لهذا الإرث، بمعنى أن مشروعيته الأولى جاءت من هذا الباب، «لكنه بعد أكثر من عقد من الممارسة، خاض في خلالها أكثر من معمودية نار، بدءاً من 11 أيلول وتداعياتها في أفغانستان والعراق، والقرار 1559 واغتيال (الرئيس رفيق) الحريري ومعه الخروج من لبنان، إلى عدوان تموز وحرب غزة ومحاولات زعزعة الاستقرار الداخلي بوسائل عديدة، بنى الأسد مشروعية خاصة به تجعله قادراً عن رفع عبء الماضي كله عن كاهله»، على ما تفيد مصادر عليمة بشؤون سوريا وشجونها.
ليس هذا فقط، بل «لقد بدا واضحا من خلال الممارسة الاختلاف في النهج بين الأسد الأب والأسد الابن». يقول خبيث من محور الممانعة إن أحدهم زار القاهرة ذات يوم وسأل أحد سكانها «كم يساوي مجموع أربعة زائداً ثلاثة؟»، صمت المصري لحظات قبل أن يرد بسؤال «إنت عايزهم كم يا بيه؟». جواب فسره السائل بأنه يعبر عن حنكة المصري وحرصه على إرضاء ضيوفه الأجانب في بلد تعد السياحة فيه أحد أبرز مصادر رزقه. يضيف الخبيث نفسه إنه في اليوم التالي انتقل إلى دمشق وطرح السؤال نفسه على دمشقي التقاه صدفة. صمت الشاب لحظة قبل أن يرد بسؤال «هل تريد أن تشتري أم تريد أن تبيع؟»، في محاولة منه للإشارة إلى العقل التجاري لأهل الشام، الذين يشاركهم فيه أهل حلب، ركنا البلد اللذان يدرك الجميع أن النظام لا يمكن أن يتزعزع طالما أنهما معه.
متبرع معلومات يتدخل ليروي حادثة من تسعينيات القرن الماضي. وقتها، أقام السوريون حفلاً لتوديع سفير لإيران كانت قد انتهت مهمته في سوريا. وفي خلال العشاء، توجّه أحد المسؤولين السوريين إلى السفير بسؤال: «ماذا علق في ذهنك عنّا بعد أربع سنوات من الخدمة الدبلوماسية في دمشق؟»، ابتسم السفير وقال: «خلال هذه الفترة، بعتمونا واشتريتمونا أكثر من مئة مرة، لكنكم للأمانة ولا مرة سلمتم البضاعة»، فاشتعلت الطاولة بالضحك.
المصادر السالفة الذكر ترى في المثلين السابقين «أصدق تعبير عن عهد الأسد الأب، الذي اشتهر بقدرته الخارقة على المناورة والتفاوض لساعات من دون ملل أو كلل أو حتى تعب. لم يترك ورقة أو شيئاً إلا فاوض عليه، بل لم يرفض التفاوض مع أحد. حتى الإسرائيلي، لكنه في النهاية مات ولم يوقّع. مات من دون أن يسلم البضاعة، لأنه ببساطة لم يكن يريد أن يفعل ذلك، على ما أقر كثر ممن شاركوا في المفاوضات أو صنعوها، أميركيين كانوا أو إسرائيليين. مات والتحالف مع إيران في أوجه، والجنوب اللبناني محرّر والمقاومة منتصرة، لكنه في الوقت نفسه لم يقم بشيء إلا قبض ثمنه، بل لم يجد حرجاً في تبديل تحالفاته عندما تحولت عبئاً عليه، هو الذي اشتهر ببراغماتيته اللامتناهية. ولعل آخر صفقاته الكبرى كانت مشاركته الرمزية في عملية إخراج القوات العراقية من الكويت، والثمن الذي قبضه من الكويت وفي لبنان».
تضيف المصادر نفسها «في المقابل، يبدو واضحاً أن الأسد الابن ورث عن أبيه براغماتية الأسلوب، لكنه خطّ لنفسه نهجاً مثالياً. تجلى ذلك في أوضح صوره في الموقف الذي اتخذه من غزو العراق، والذي لا يزال يدفع ثمنه إلى اليوم». أنصار الرئيس الراحل يبررون سلبيات حكمه، القمعي على المستوى الداخلي، بأن سياسته قامت «على البناء في الداخل والمواجهة في الخارج. لا تنسَ أن حافظ الأسد تسلّم بلداً كانت الجملة الشهيرة فيه: تصبحون على انقلاب، في مرحلة من الاضطراب الإقليمي، وفي أعقاب نكسة 1967. الاختبار الأول لحكمه جاء مبكراً، في حرب 1973، التي كرست، مع خروج مصر من المعادلة، مقولة أن لا حرب أخرى مع إسرائيل، وبالتالي أُقفلت جبهة الجولان. وبما أنه لا سلام مع دولة الاحتلال من دون سوريا، أمضى الأسد الأب عهده في جمع أوراق القوة في الخارج وتحصين الوضع في الداخل، بأيّ ثمن كان. بقي لبنان الساحة الوحيدة حيث هناك هامش لحرب بالنيابة. حتى مع انهيار المعسكر السوفياتي وانتشار العسكر الأميركي في الخليج وإطلاق مؤتمر مدريد، صحيح أن المعادلات تغيرت، لكن الثوابت بقيت على حالها، بدليل ما حصل في قمة جنيف».
في المقابل، فإن أنصار الأسد الابن يحاججون بأنه «لا فضل له في الإنجازات التي حققها والده، وفي الوقت نفسه لا يتحمل مسؤولية النظام الذي بناه الأسد الأب، ولا ارتكاباته في الداخل. ربما في البداية كان بحاجة إلى عباءة الوالد لإضفاء مشروعية على رئاسته، لكن النجاحات التي حققها خلال العقد الماضي، والإنجازات التي أعاد من خلالها سوريا رقماً صعباً على الساحة الإقليمية، ويتقدمها دوره المشرف في حربي 2006 و2008، تحرره من إرث بات يثقل كاهله».
مصادر قريبة من أروقة صناعة القرار في طهران تصف الأسد الابن بأنه «سوري أصيل، مثقف، نظيف الكف، مرن في تعاطيه، ثابت في مواقفه، حريص كل الحرص على حقوق بلده ومصالحها، وعلى الحقوق العربية. رؤيته لحال المنطقة والعالم تنطلق من أسس عقائدية، لا سياسية فقط. هو مؤمن بما يقوم به. استحق الموقع الذي هو فيه، بحكمته وحنكته وشجاعته وصلابته. ولعل ذلك ظهر في طريقة مواجهته المؤامرة التي تتعرض لها سوريا حالياً». تقول إن «الخوف من تداعيات نجاح المؤامرة وسقوط الأسد إنما هو على سوريا قبل المقاومة. بات واضحاً، بحسب المعلومات، أن ما كان مخططاً لسوريا إنما يحاكي النموذج الليبي، مع ما يعنيه من حرب أهلية وتقسيم. ولنا ملء الثقة بالشعب السوري وقواه الحية الداعمة للمقاومة في كل الأحوال، على ما عوّدنا تاريخ سوريا الأبية».
مصادر لبنانية رفيعة المستوى لصيقة بالوضع السوري تقول إن «الرئيس الأسد لا تزال أمامه فرصة لاستعادة الاستقرار والانطلاق في مسيرة الإصلاح والتحديث. حتى الآن لا تزال الطبقة الوسطى في حال انسجام مع النظام، الذي لا يزال يحظى بدعم الجيش، خلافاً للوضع في مصر، على سبيل المثال، حيث أدت ثورة الفئة الأولى في ظل حياد الفئة الثانية إلى انهيار سريع للنظام».
No comments:
Post a Comment